معنى الابتلاء في قوله ( وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ)
(وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)
الابتلاء والبلاء هما بمعنى واحد ، يُقال : بلوْتُه وابتليْتُه بكذا أي أوقعتُه في أمر ليظهر ما يخفى من صفاته.
وهو غالباً لتعرف ما يجهل من أمره ، ويقرُب منه الاختبار والامتحان والفتنة ، ولكن يبدو أنّ التعرّف من غايات الابتلاء وليس جزءاً من معناه , بحيث إذا جُرّد عنه كان الاستعمال مجازيّاً .
( وعلى أيّ حال فإنّ ابتلاء الله تعالى لم يكن لأجل التعرّف على حال المبتلى ، وإنّما هو لإظهار حاله وإبراز ما كمن في نفسه ، وفعليّة ما يستعد له من السعادة والشقاء ) وهي غاية الخلقة نفسها ، حيث
قال تعالى : ( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ).
وقال تعالى : ( إنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ) .
وقال تعالى : ( وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ).
مامعنى الكلمات في قوله تعالى (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ) ؟؟؟
الكلمة ما يُتكلّم به ، فتُطلق على اللفظ المفرد والجملة وعلى محكيّهما ، وقد استُعملت في القرآن الكريم في الحاكي كما في قوله تعالى : ( كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ) وفي المحكي كما في
قوله تعالى : ( مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ )، وقد أُطلقت على بعض الموجودات الخارجيّة ـ بغضّ النظر عن كونها مدلولة لألفاظ معيّنة ـ كما في قوله تعالى : ( وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ )، وربّما كان ذلك باعتبار أنّ الوجود الإمكاني ليس إلاّ كلمة ( كن ) الإيجاديّة ، إذ قال الله تعالى :
( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )، كما يُحتمل أنّ تسمية الموجودات الخارجية بذلك باعتبار أنّها تعرب عن الله تعالى كإعراب اللفظ عن المعنى .
بماذا ابتُلِي إبراهيم عليه السلام ؟
إنّ المراد بالكلمات التي ابتلى بها إبراهيم عليه السالم إمّا أنْ تكون هي الأوامر الصادرة من الله تعالى والحاوية لتكاليف هامّة ، أو يكون المراد متعلّقات تلك التكاليف باعتبار كونها محكيّة لكلامه تعالى تارةً ، أو بما أنّها أمور كائنة بكلمة الإيجاد تارةً أخرى .
أمّا إتمامهنّ فالمقصود به الإتيان بهنّ على الوجه الأتم ، فكأنّ تلك الكلمات كانت حوادث ناقصة قام إبراهيم بإتمامهنّ من خلال العمل بها ، وبهذا يكون الضمير الفاعلي في ( أَتَمَّهُنَّ ) راجعاً إلى إبراهيم ، ويحتمل رجوعه إلى ( ربّه) ، وحينئذ يكون المراد بالإتمام ، الامتحان أو التوفيق للعمل بموردها .
إلاّ أنّ الأظهر أنّ المراد بـ ( كلمات ) هو نفس البلايا التي ابتلى بها مدى حياته كالإلقاء في النار ، والاضطرار للهجرة ، والأمر بتضحية الولد ، والعهود التي أُخذت منه للصبر عليها .
يقول تعالى في قصّة ذبح إسماعيل : ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاَء الْمُبِينُ ) (14) .
أمّا حقيقة الإتمام فهي الصبر على البليّة ، والعمل بما يرضى الربّ تبارك وتعالى فيها ، قال تعالى :
( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ) (15) .
وعلى أيّ حال ، فإنّ ما نعرفه من خلال ما مرّ هو أنّ الابتلاء كان عمليّة تأهيل لمقام الإمامة السامي ، وأنّ العمل بما يلزم في البليّة كان شرطاً ضرورياً للفوز بهذه الكرامة العظمى .