top of page

4- (المفعول) لـ "وهبنا لهم من رحمتنا"

القرينة الرابعة: وهي قرينة لطيفة، تتجلى بعد التدبر في أن (المفعول به) أين هو؟ فإن الاية الكريمة تقول: {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا}، فإن الله تعالى في الآيات السابقة، واللاحقة ذكر المفعول به، لكنه في هذه الآية لم يذكره، لماذا، لكي يُلفت انتباهك إلى أن هناك أمرا ما، وأنه يوجد نوع من التغيير، فلابد من التعرف عليه وعلى السر وإكتشافه..

 

لاحظوا الآيات السابقة: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ}مريم49 ماذا؟ {ِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}مريم49 هذه هي الآية السابقة، إذن الموهوب هو (إسحاق، ويعقوب)، وهو المفعول به وهو مذكور، ثم في الآية التي تأتي بعدها: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً}مريم53، فـ {َخَاهُ هَارُونَ}مريم53 هو المفعول به، لكن في آيتنا (المفعول به) أين هو ؟ ليس بموجود ظاهرا، {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا}مريم53 ماذا وهبنا ؟ المفعول ليس بموجود، لماذا؟

 

وأجيب - كاحتمال والله أعلم - لأن هذا الجواب له أجوبة أخرى، وقد تكون تلك الأجوبة أيضا محتملة، ولكنها تدل على المقصود أيضا، إذا وصلنا إليها بإذن الله تعالى ..

والاحتمال هو: إن {عَلِيّاً} المذكور في آخر الآية القرآنية الكريمة هو المفعول به للجملتين، يعني: {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} أي: (ووهبنا لهم من رحمتنا "عليا" وجعلنا لهم لسان صدق عليا)، وهذه قاعدة نحوية معروفة، أشار إليها ابن مالك بقوله:

إن عاملان اقتضيا في اسم عمل    قبل فللواحد منهما العمل

إذ أحيانا يتوارد عاملان على مفعول واحد، وقد أُستغني بذكر المفعول به اخيرا عن تكراره مرتين أو مرارا، فإنه نوع جمال وبلاغة، وذلك كما تقول: أكرم وأطعم زيدا، بدل أكرم زيدا وأطعم زيدا، فـ(زيدا) في الجملة الأولى هو المفعول به، لفعلي الأمر كليهما، وفي الآية فإن {وعَلِيّاً} مفعول به للجملتين، أي لـ{وَوَهَبْنَا} ولـ{وَجَعَلْنَا لَهُمْ}، وذلك كما تقول في مثال آخر: وهبت له وجعلت له خليفة، فإن هذه الجملة صحيحة وبليغة، لكنها في الواقع تتركب من جملتين.

بل نقول: إنه ليس من البلاغة أن تكرر المفعول، مثلا: لك أن تقول: وهبت لك المال، وأجزت وأبحت لك مطلق التصرف بالمال، لكن الأفضل أن تقول: وهبت لك وأبحتك المال، أو ما أشبه ذلك، فالأفضل عند توارد العاملين، أن لا يكرر المفعول في كل الجمل، وإنما يترك للجملة الأخيرة.

وفي الآية الشريفة يبقى الاستفهام: أين المفعول؟ والحال أننا نجد في الآية السابقة المفعول موجودا: {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}مريم49، لكن في هذه الآية: {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا}مريم50، لا نرى ذكرا للمفعول. ولا يتوهمن متوهم أن {مِّن رَّحْمَتِنَا} مفعول، فإن الجار والمجرور لا يقعان مفعولا به، والتقدير على خلاف الأصل.

إضافة إلى أن الآية 53 اللاحقة يتضح منها أكثر، أن المفعول أمر آخر، وليس {مِّن رَّحْمَتِنَا} مفعولا والآية 53 هي: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً}مريم53 لكن هنا: نجد فقط {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا}مريم50  فما هو الموهوب والمفعول به {وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا}؟ سكوت: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً}مريم50، وحيث إن الفعل لابد له من مفعول، فلعل المفعول هو {عَلِيّاً} في آخر الجملة، كما هو مفعول {وَجَعَلْنَا}، أو هو {لِسَانَ صِدْقٍ} و {عَلِيّاً} بدل منه.

وعلى أي تقدير، فإن سياق {وَهَبْنَا} في الآيات السابقة واللاحقة يؤكد أن مفعول {وَهَبْنَا} هو (شخص معين) وليس معنى وصفة، فيراد بـ{لِسَانَ صِدْقٍ} أيضا الشخص كما سبق تفصيله، ويكون حاصل المعنى: (جعلنا لهم شخصا ذا لسان صدق وهو علي عليه السلام).

نعم، يحتمل أن يكون مفعول {وَوَهَبْنَا لَهُم} محذوفا مقدرا، وهو (رسول الله) كما في الرواية التي تقول:

 

{وَوَهَبْنَا لَهُم مِّن رَّحْمَتِنَا} (رسول الله) {ووَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} بل لو تم سند الرواية فإن هذا هو المتعين.

وعلى هذه الرواية أيضا قد يقال: إن ذلك شاهد على أن (عليا) هو علي بن أبي طالب، لأنه شَفْعُ رسول الله وخليفته ونائبه، والقائم بكل شؤونه وأموره، فكان المناسب أن يقول جل اسمه في مقام الامتنان على إبراهيم، إنه تعالى (وهبه) رسول الله و(جعل له) عليا كلسان صدق.

ويؤيد ذلك أن (جعلنا لهم) هنا تطابق كلمة (جعل) في آية استخلاف موسى لهارون: {وَاجْعَل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي}طه29، حيث استخدمت (جعل) متعدية لمفعول هو شخص وليس صفة، أي استخدمت في خصوص الخليفة والوزير والنائب المطلق، وكذلك قوله تعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}.

bottom of page