top of page

الجزء الأول - متى تمّ مَنْحه مقام الإمامة ؟

ما يبدو من هذه الآية أنّه عليه السلام مُنح هذا المقام بنفس هذا الخطاب الإلهي بقوله تعالى : 

( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) أو بعده ، ذلك أنّا عرفنا أنّ مَنْحَه ذلك كان نتيجة لابتلائه وامتحانه ، فلا يُعقل مَنْحه المقام قبل الامتحان ، ويؤيّد ذلك أنّ اسم الفاعل : وهو هنا ( جاعل ) ، لا يعمل في المفعول : وهو هنا ( إماماً ) ، إلاّ إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال ـ كما قيل .

ومن الواضح أنّ علميّات الامتحان بهذه الكلمات تمّت في زمن نبوّته ورسالته ؛ لأنّه عليه السلام أعلن دعوته الحنيفيّة ورفع لواء التوحيد وهو شاب يافع ، إذ يقول تعالى : ( وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً * ... * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً )، ويقول تعالى : 

( قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ )، وهكذا نجد إشارات حقيقة البعثة المُبكّرة في باقي الآيات التي تتحدّث عن بعض أطوار حياته .

كما أنّ الظاهر هو وجود ذرّية له عند سؤاله الذي ذكرته هذه الآية بقوله : ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) ، أو علمه بحصول ذرّيّة له ـ على الأقل ـ وإلاّ لكان مقتضى الأدب العبودي أنْ يُقيّد سؤاله بأنْ يقول مثلاً :

( ومِن ذريتي إنْ رُزِقت ) ، فإذا لاحظنا هذا ولاحظنا أيضاً أنّ القرآن الكريم يحكي على لسانه قوله : 

( الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ )، ورأينا أنّه عَلِم بأنّه سيُرزق ولداً بوحي من الله وبشارة جاءت بها الملائكة الذين دخلوا عليه في طريقهم إلى قوم لوط لإهلاكهم , حيث تعجّب من هذه البشارة ! فقال : ( أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ )، وكانت هذه البشارة بعد رسالته وإيمان لوط له ، إذ قال تعالى : ( فَآَمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي   ... )، وقال تعالى : 

( وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ )، إذا لاحظنا كل هذا بدقّة حصل لنا الاطمئنان بأنّ الإمامة قد أُعطيت له بعد أنْ كان نبيّاً رسولاً ، وبذلك لا يمكن قبول ادّعاء أنّ مقام الإمامة هو النبوّة لا غير ، وهذا المعنى تؤكّده روايات كثيرة وتدلّ عليه بصراحة .

وإذا كانت الإمامة مقاماً منح بعد كون إبراهيم نبيّاً رسولاً ، فإنّ ذلك يكشف عن كونها مقاماً أرفع من النبوّة والرسالة ، وممّا يؤكّد ذلك توقّفها على إتمام الكلمات والصبر على البليّات .

 

 

 

 فلا يبقى لدينا إلاّ احتمالان :

 

الاحتمال الأوّل : أنْ تكون الإمامة مقاماً تشريعيّاً فوق النبوّة ، وأثرها وجوب الاتّباع المطلق في جميع أقواله وأفعاله ، ذلك أنّ النبوة والرسالة لا تتطلّبان في ذاتهما الاقتداء بالنبيّ الرسول في جميع الحركات والأعمال ، وغاية ما تفرضانه هي الطاعة والاستماع لِما يُبلّغ للناس من دعوة ورسالة ، اللّهم إلاّ أنْ يأتي دليل آخر هو غير الدليل الدال على النبوّة أو الرسالة فيدلّ على وجوب الاتّباع العملي ، وذلك مثل قوله تعالى :

 ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ )، وقوله تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ).

 

الاحتمال الثاني : أنْ تكون الإمامة مقاماً تكوينيّاً يشكّل فيه الإمام واسطة لإيصال عطاء الهداية الحقيقية لمَن هو أهلٌ لها , إضافة للهداية التشريعيّة التي يستوي فيها المؤمن والكافر ، ومن الممكن دخولهما معاً في ما جعل بهذه الآية بشكل ترتّبي طولي .

 

 

ما يؤيّد الاحتمال الثاني :

والذي يؤيّد الاحتمال الثاني أنّ هذه الإمامة لها خصيصة يخبرنا عنها القرآن الكريم بقوله تعالى : في سورة الأنبياء : ( أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (25) .

وليست هذه الهداية مجرّد إراءة للطريق وإيضاح للهدف ؛ لإتمام الحجّة على الخلق كما هو شأن النبي المنذر ، بل هي أمر فوق النبوّة ومقتضياتها .

ومن هنا نفهم أنّها تعني الإيصال إلى المطلوب الذي يُنسب إلى الله حقيقة , والى الوسائط باعتبارهم وسائل غير مستقلة والتي إنّما تؤثّر بأمر الله , كما أنّ الملائكة تعمل بأمره تعالى حيث يقول سبحانه : 

( وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ) (26) .

وعلى هذا ، فالمراد بالهداية الخاصّة بالإمام هي الهداية التكوينيّة ، والمراد بالإمامة إمّا نفس هذا المقام التكويني السامي أو أنّها أمر تشريعي يبتني عليه .

 

وبتعبير آخر : فإنّ مقام الإمامة مقام ظاهره التشريع وباطنه التكوين ، بمعنى أنّ ظاهر هذه الآية الشريفة هو إثبات مقام تشريعي للإمام يستلزم أنْ يكون قوله وفعله وتقريره حجّة مطلقاً على الخلق ، وباطنها هو إثبات مقام تكويني للإمام ، ومن خواص هذا المقام التكويني جريان الهداية الإلهيّة على يديه ، ولا يوجد أيّ تنافٍ بين المعنيين : التشريعي والتكويني ؛ لأنّهما مترتّبان طوليّان ، أي أحدهما يراد بعد الآخر ، وهذا هو الشأن في بطون الآيات .

وهنا يجب التنبيه على أنّ إعطاء وصف الإمام مطلقاً للشخص يعني كون المتّصف هو القدوة والأسوة في جميع الأمور التشريعيّة ممّا يتعلّق بسعادة الإنسان ومسيرته الكمالية ، من غير اختصاص بشأن دون شأن ، ومع هذا الإطلاق في الوصف لا نحتاج لدليل يثبت لنا حجّيّة جميع أقواله وأفعاله ، قوله تعالى : 

 ( وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ).

بملاحظة الموارد المختلفة التي تتحدّث عن حالات إبراهيم عليه السلام ، نجد أنّه كان مثال الاعتناء بأمر ذرّيته وصلاحها ومصيرها الحسن ، فهو يستوهب الله ذرّيّة صالحة : ( رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ )، ويسأل الله ذرّية مسلمة لله في دعائه المشترك مع ولده إسماعيل عند بناء بيت التوحيد الكعبة الشريفة : 

( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ )، ويطلب منه تعالى أنْ يبعده وبَنِيْه عن عبادة الأصنام : ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ ).

وها نحن نراه لا يترك فرصة تلقّيه بشارة جعله إماماً حتّى يتساءل عن إعطائها لذرّيته ، فيجاب بأنّه : 

( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )، حيث تدلّ على أنّ عهد الله تعالى الذي يدخل فيه عهد الإمامة لا ينال الظالم ، وهذه سُنّة إلهيّة كبرى ثابتة .

 

والملاحظة أنّ الجواب إمّا جاء ردّاً على بعض ما سأل ، أو تعييناً لِما أهمل ، أو تنبيهاً له على ما أغفل . ولعلّ الأوسط هو الأنسب .

وقد تمسّك الشيعة ـ تبعاً لأئمّتهم عليهم السلام منذ العهد الأوّل ـ بهذه الآية الشريفة لإثبات عصمة الإمام ، إذ هي صريحة في عدم أهليّة الظالم لهذا المقام السامي ، ولا ريب في أنّ مِن أظهر مصاديق الظلم الشرك بالله وعبادة غيره ، حيث قال تعالى : ( إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ )، وأنّ إطلاق ( الظالمين ) شامل لكلّ ظلمٍ ، سواء كان على الغير أو على النفس ، وكل معصية صغيرة أو كبيرة ظلم ، لا يصلح مرتكبه لهذا المقام الشامخ .

هذا ، وقد ذكر أعلام الشيعة وجوهاً لتقريب وتوضيح دلالة الآية على لزوم أنْ يكون الإمام معصوماً قبل أنْ يناله عهد الإمامة .

bottom of page