الجزء الثاني - متى تمّ مَنْحه مقام الإمامة ؟
وفي ما يلي بعض هذه الوجوه :
الوجه الأوّل : إنّ إبراهيم عليه السلام سأل الله تعالى أنْ يُمنح هذا المقام الرفيع لبعض ذرّيته ، فاستجاب الله تعالى في بعض مَن سأل لهم هذا المقام .
ولا ريب في أنّ إبراهيم ـ ومَنْ هو في جلالة قدره ـ لا يطلب الإمامة لِمَن يستوعب الظلم كلّ حياته ، كما أنّه لا يطلبها لمَن ينحرف , فهو عليه السلام إذاً كان يطلب الإمامة لمَن لا يدخل في هذين الفرضين وهم : إمّا رجل لا يَظلم طول حياته ، أو آخر تلبّس بالظلم حيناً ثمّ تاب عنه . وهنا جاءت هذه الآية الشريفة لتنفي صلاحيّة الفرد الثاني الذي صدر منه الظلم للإمامة العظمى .
الوجه الثاني : إنّ قانون : ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) جاء جواباً على سؤال إبراهيم الإمامة لبعض ذرّيّته ، ليؤكّد أنّ دعاء إبراهيم لن يُستجاب في الظالمين منهم .
ومن الواضح أنّه يتحدّث عن المستقبل ، وأنّ إطلاق وصف ( الظالم ) إنّما هو بملاحظة حال تلبّسه وقيامه بالظلم ، أمّا حين صدور هذا الخطاب لإبراهيم فليس ملحوظاً قطعاً . وإنّ تعبير النَيْل وإسناده الفاعلي إلى العهد يُشير إلى أنّ هذا العهد أمر ينزل من الله تعالى فيجري فيمَن كان قابلاً لاتّصافه بالإمامة ، والمرتكب للظلم في بعض حالات حياته كان قد انطبق عليه عنوان ( الظلم )عند ارتكابه ، ففقد بذلك صلاحيّة ارتفاعه لمقام الإمامة المنيع ، فلا يناله ذلك العهد النازل من الله .
الوجه الثالث : إنّ المراد بالظالم في هذه الآية بملاحظة مناسبات المقام هو ظلم في آنٍ ما من حياته (33) فإنّ من الملاحظ بوضوح في مجال مَنْح المناصب وخصوصاً الهامّة المصيرية منها ـ حتى ولو كانت مناصب دنيوية ـ أنْ لا يكون التركيز مقصوراً على حالة الشخص حينما يُراد إعطاؤه هذا المنصب ، وإنّما تُدرَس حياته الماضية وسوابقه السلوكيّة ، فإنّ ماضيه يؤثّر على حاضره بلا ريب . والظلم ولو في لحظة حياتيّة يمنع الإنسان من أنْ يكون مؤهّلاً لمنصب هو من أخطر المناصب على الإطلاق ، وهو منصب الإمامة ؛ لأنّه يعني تسلّم مصير الأُمّة كلّها .
وهناك وجه آخر للزوم العصمة قبل نيل الإمامة ، وحاصله :
إنّ الآية الكريمة أعطت سُنّة إلهيّة في مجال إعطاء العهود والمناصب الإلهيّة ، وهي تؤكّد أنّ هذه العهود لن تُعطى إلاّ لمَن له رادع داخلي على الظلم والطغيان ، وليست الإمامة سلعة تُعطى ثمّ تُسترَد عند ظهور عدم صلاحيّة حاملها وصدور الظلم والطغيان عنه . مَثَلُها في ذلك مثل النبوّة ، فهي إنّما تُعطى لمَن هو مأمون عن الظلم والفساد ، ولا يحصل الأمن إلاّ إذا وُجدت مَلَكَة ومبدأ عاصم في النفس ، وقوّة فائقة في القلب ، وهذا المبدأ ليس أمراً جُزافياً اتفاقيّاً ، وإنّما ينشأ عن بُنية خاصّة وشرايط تكوينيّة مساعدة وصلاحيّات تصونه عن الخطأ والانحراف ، ولسنا نعني بالعصمة غير هذا .
هذا ، وإنّ نسبة العهد إلى الله يؤكّد على أنّه أمر لا دخل للناس فيه ، وإنّه تعيين إلهي لا انتخاب ولا اختيار للأُمّة فيه .
والواقع أنّنا نحتاج إلى هذه الوجوه عندما نريد إقامة الحجّة على مَن لم يستبصر بعد , ولم تثبت له حجّيّة كلام أهل البيت عليهم السلام .
أمّا العارف بشأنهم والآخذ من علومهم فهو في غنىً عن إقامة هذه الوجوه ، بعد أنْ وردتْ روايات كثيرة عنهم عليهم السلام تدلّ على أنّ الآية تُبطل إمامة كل مَن عبد صنماً ، وأنّه لا يمكن أنْ يكون السفيه الذي رغب عن ملّة إبراهيم إمام المتّقين . فراجع جوامع الحديث والتفاسير الروائيّة . وها نحن نذكر من طريق كل
من الفريقين نموذجاً لها :
فعن السُنّة : عن أبي الحسن الفقيه ابن المغازلي الشافعي مسنداً , عن عبد الله بن مسعود قال :
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : ( أنا دعوة إبراهيم ) .
قلتُ : يا رسول الله وكيف صرت دعوة أبيك إبراهيم ؟
قال : أوحى الله عزّ وجل إلى إبراهيم : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ) فاستخفَ إبراهيم الفَرَح ،
قال : ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) أئمّة مثلي ، فأوحى الله عزّ وجل إليه أنْ يا إبراهيم ، إنّي لا أعطيك عهداً لا أفي
لك به ، قال : يا ربّ ، ما العهد الذي لا تَفِي به ؟
قال : لا أعطيك لظالم مِن ذرّيّتك عهداً .
قال إبراهيم عندها : ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ ).
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : فانتهت الدعوة إليّ والى علي ، لم يسجد أحدنا لصنم قط ، فاتّخذني نبيّاً واتّخذ عليّاً وصيّاً.
عن الشيعة : عن الكليني والمفيد والعيّاشي ـ رحمهم الله ـ مسنداً , عن الصادق عليه السلام :
( إنّ الله تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أنْ يتّخذه نبيّاً ، وإنّ الله اتّخذه نبيّاً قبل أنْ يتّخذه رسولاً ، وأنّ الله اتّخذه رسولاً قبل أنْ يتّخذه خليلاً ، وأنّ الله اتّخذه خليلاً قبل أنْ يجعله إماماً ، فلمّا جمع له الأشياء
قال : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ).
قال : فمن عِظَمِها في عين إبراهيم قال : ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ) ؟ ( قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) قال : لا يكون السفيه إمام التقي.